إنّني أشكر مركز كيمبريدج لدراسات فلسطين وبشكل خاص الدكتور مكرم خوري مخول على هذه الدعوة كما وأسجّل فائق تقديري لهذه الجهود المستدامة المبذولة في سبيل المسيرة الأبدية لقيام حوار بين التاريخ والأكاديميا والوقائع من جهة وبين الأخلاق والقيم والعدل من جهة ثانية وذلك في عمل دؤوب يسعى إلى تحقيق السلام العادل وسيادة حقوق الإنسان. كُنْتُ قد حرّرت كلمات هذه المداخلة قبل إنفجار التطوّرات الكارثية المُعاشة في فلسطين الآن، وكُنْتُ على وشك تغيير كلّ من الأفكار التي إنطلقت منها وسردية الوقائع في ضوء الجرائم المنفّذة من قبل (كلّ) القوى الإستعمارية (من دون إستثناء) وذلك تجنّبًا للبقاء خارج السياق الإنساني العام. لكنّي تيقّنت أنّه لا بدّ من أن تتّصل كلمات معظم المتداخلين بالأحداث الجارية، فقرّرت أن أبقي كلمتي بتركيزها على الحلّ كما تصوّرته منذ البداية. (*)
أيها الحضور المُمَيّز،
"تحوير الحقيقة"... الخرافة والكذبة والسرقة !
وصِلَتها جميعها بالنكبة. (**)
لقد نشأت النكبة من رحم أكبر عملية تزوير للحقيقة في تاريخ البشرية. الكذبة التي "تصرّفت" بجميع مبادىء حقوق الإنسان على خلفية خاطئة و"وقائع" مزيّفة أنّ هناك "أرض من دون شعب" ل"شعب من دون أرض". وتشير الوقائع التاريخية أنّ هذه الأرض كانت وما زالت لها شعب عاش ويعيش فيها منذ آلاف السنين، وبالمقابل، فإنّ اللَمَم من الناس الذين جِيءَ ويُجاء بهم من كلّ أصقاع الأرض لاستعمارها هم ليسوا، ولم يكونوا، ولن يكونوا يومًا شعبًا واحدًا.
لقد تمّ تخطيط كلّ هذا وبرمجته وتنفيذه بالقوة من طريق أكبر سرقة عرفها التاريخ وهي ما زالت قائمة، إذا ما استثنينا، ربّما حجمًا، السرقة المَنْسيّة لقارَتي الأميركيتين وأوسيانيا من شعوبها الأصلية.
وإلى هؤلاء الأبطال الذين يقفون دائمًا شامخين في فلسطين، وبالأخصّ في القدس وغزّة العزّة نقول: "نحن نعيش غضبكم باعتزاز".
يا لها من ذروة نفاق أن تكون في القرن الحادي والعشرين وما زال هناك مستوطنون إستعماريون، والأفضح، (أو الأحطّ)، ما زال هناك أناس يعتقدون بما "يُعْرَف بحقّهم" في استعمار الغير ويدّعون ويؤمنون في الوقت نفسه أنّهم يعيشون في عالم متمدّن.
قال رجل السلام مارتِن لوثر كينغ: "يجب أن تكون كلّ الأوقات متاحة للقيام بالأعمال الصحيحة".
ونقول الآن: لقد آن الأوان للقيام بالعمل الصحّ.
أمّا التاريخ فيعلّمنا: من المذابح الروسية في شرق أوروبا، حتى محاكم التفتيش الإسبانية في غربها، قرون من النبذ والإضطهاد ما زالت تشخص إليكم. وإلى المُنَصِّبين أنفسهم ممثِّلين عن "العالم الحرّ" نقول: كُفّوا عن الإدّعاءات الحمقاء، إلغوا المعايير المزدوجة، أدينوا جميع أنواع التفرقة والتمييز من صنوف: عقوبات وقوانين جائرة وقرارات مرتكزة على مبادىء أنّ أمرًا ما يبدو ضدّ-هذا أو ذاك من الجهات أو تصريح مُنْكِرٌ- لهذه أو تلك من "المحظورات" التي تحدّدونها أنتم دون سواكم.
وكما إعترفت صحيفة الغارديان الإنكليزية مؤخّرًا في مناسبة مئويّتها الثانية وفي مراجعة لأخطائها تحت عنوان:"أين أخطأنا: أكبر أغلاطنا في التقدير للغارديان"، وانتقدت فيها دعمها الأساسي لإعلان بلفور، نقول لكم: إعترفوا، إندموا، إعتذروا، أَعِيدوا، عوِّضوا ! لأنّ إذا كان الخطأ إنسانيًّا، فالإمعان في الخطأ يصبح حيوانيًّا.
ولكي يُسْمَح للجُناة مرتكبي هذه الأهوال الموثّقة من العودة إلى الإنسانية والدخول في المجتمع العالمي للدول والشعوب، فالمطلوب منهم: أوّلًا: الإعترف بالذنب، ثانيًا: تلاوة فعل الندامة، ثالثًا: الإعتذر عن الجرائم، رابعًا: إقامة صلاةٌ مستدامة، من دون توقّف، لأرواح الضحايا، القتلى، المضطهدين والمحرومين من الحياة، وخامسًا: العمل على التعويض على المظلومين من طريق ما يُعْرف بعدالة إنتقالية التي، على غرار ما يتمّ تطبيقه في حالات الصراع، تعمل وفقًا لنظم وقوانين بإشراف لجنة مصالحة علّها تتمكن، وفي الحدّ الممكن، من تخفيف الضرر بتعويض الضحايا حتى أجيالهم الحالية.
وفي هذا المجال، يجدر التذكير بكلمات الزعيم الأممي نيلسون مانديلا: "نحن نعلم جيّدًا أنّ حرّيتنا ستبقى ناقصة من دون الحرية للفلسطينيّين".
إنّني أتوجّه إلى حضوركم المميّز وعبركم إلى سلطة العالم، الأقلّ تَمَيّزًا، بصفتي مواطن من منطقة جغرافية، العالم العربي، سوريا الكبرى. هذه المنطقة كانت فيما سبق منطقة موحّدة غير مجزّأة، أرضًا واحدة، شعبًا واحدًا، عرقًا واحدًا، والتي تمّ تجزئتها إلى ستّة أقطار: سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن وغيرها. هذه الأرض رُسِمَت فيها أولى حروف الأبجدية، وفيها وُضِع الدستور الأول وكُتِبَت مبادىء القوانين الإنسانية كي يعمّ العدل والسلام البشرية جمعاء. هذه أرض يملكها شعب بلغة واحدة وبتقاليد مشتركة والتي، لا بَلْفور، لا سايْكس، ولا بيكو أو غيرهم، وحتمًا ليس ترامب وكوشنير والوافدون الجدد الذين لا نهاية لهم كان لهم الحقّ، أو أنّه لهم الحقّ الآن، أو أنّه سيكون لهم أيّ حقّ في تقرير مصيرها ناهيكم عن شنّ حروب فيها وعليها وإصدار الأوامر وتحديد نظمها وقياداتها.
هذا فعلًا هو نصيبنا في النكبة: حروب أبدية وازدواجية معايير لا نهاية لها، تمييز عنصري على قاعدة الإستعمار. نعم. هذا هو نصيبي من النكبة: الحرب على فلسطين، لبنان، سوريا وكلّ شعوب المنطقة. وأيضًا وفي ضوء آخر التطورات في فلسطين نقول: هذه النكبة الجديدة هي نصيب العالم أجمع في النكبة. وهي أولًا نصيب بريطانيا في النكبة والتي تتحمّل المسؤولية التاريخية لهذا الوضع المأساوي اللامتناهي. وهذا هو نصيب البشرية: تصميم وخلق ودعم واحتضان ودفاع عن الدولة/السجن الجماعي الوحيدة من قبل "العالم المتحضّر". نعم، إنّكم تستحقون فعلًا "برافو" صادحة.
كلّ هذا يأتي بنا أخيرًا إلى صلب عنوان هذا الخطاب ومطلعه: "تحوير الحقيقة"... هلّا توافقونني أنّه آن الأوان، وكما يتمّ أداء القسم في المحكمة، أن نقول الحقيقة، كلّ الحقيقة، وخاصّة في هذه الحالة، لا شيء غير الحقيقة ؟؟ إنّني أناشدكم هنا، أمام محكمة رأي الشعوب، محكمة ضمير الإنسانية. إنّ العالم يقف الآن على شفير هاوية بين السلام والنكبة ... "إلى أن يفرّق الموت بينهما".
إنّني أتوجّه إليكم باللغة التي تمّ بها التفكير وكتابة والتعبير وتخطيط وحكم وتنفيذ كلّ هذه الجرائم. اللغة التي وبِإسمها ما زالت تُرْتَكب الفظائع نفسها بل وأكثر، اللغة التي بواسطتها يجب أن يسود الحقّ أخيرًا... في يوم، لا بدّ آتٍ، من أيام البشرية المُضيئة.
أيّتها شعوب العالم، تعالوا نصرخ معًا: "أوقفوا هذه الإبادة الجماعية: إعترفوا بفلسطين".
لقد كتبت كلماتي هذه بصيغة دبلوماسية قدر الإمكان وذلك قبل حصول آخر الأحداث الأليمة في فلسطين. وإنّي أترك لكم مهمّة إعادة كتابتها بالأسلوب المناسب على ضوء الجرائم البربرية المُتوالدة. هذا نصيب الجميع في النكبة ومنها، قولوا لهم أنّه لا يمكنهم خداع "كلّ الناس كلّ الوقت".
وإنّني، إذ أشكركم على صبركم، ألفت إنتباهكم إلى أنّ صبركم سيبقى، وإلى الأبد، لا يقارن بمئة عام من صبر الفلسطينيّين وفلسطين.
لبنان، في 15 أيّار 2021م. حيّان سليم حيدر.
________________________________________________
(*) كلمة حيّان سليم حيدر (مترجمة من الإنكليزية) ألقاها في إحتفالية إحياء الذكرى ال 73 لنكبة فلسطين التي نظمها مركز كيمبريدج لدراسات فلسطين تحت عنوان "مبادرة فلسطين 100" - "نصيبي في النكبة" يوم السبت في 15 أيار 2021م.
(**) كان من المفترض مشاركة هذا الخطاب مصحوبًا بالتسجيل الحيّ العائد له، غير أنّه يجدر التنويه، أنّ شركة فايسبوك، مُشَغِّل منصّة التواصل، قد حذفت كلّ فعاليات الإحتفالية، ومن دون أيّ سابق إنذار، في تعبير صارخ منها على "الحرص على حريّة التعبير".
3