دولة الطفّار... عدنان الساحلي :: موقع صيدا تي في - Saida Tv


دولة الطفّار... عدنان الساحلي

ليس سهلاً أن يصبح حكام بلد طفّاراً، يتجنبون مواجهة القضاء والعدالة؛ ويتهربون من أحكام القانون ويصبح موقفهم عدائياً تجاه القضاة، فيما دورهم ووظيفتهم يُحتّمان عليهم دعم القضاء وحمايته من التدخلات ومؤازرته ليُنفذ أحكامه.

وصِفة الطفّار تُطلق في لبنان على الهاربين من وجه العدالة وأحكامها، إما لجريمة إرتكبوها أو جناية أُلصِقت بهم زوراً، مما دفعهم للجوء إلى الجبال والمناطق النائية، هرباً من أيدي وأعين السلطات.

لكن أن يُصبح حكام البلد طفاراً يرفضون الخضوع لسلطة القضاء؛ ويتمردون على أحكامه، فهذا أمر ليس غريباً وعجيباً فقط، بل هو فضيحة مدوية سيسجلها التاريخ على هذا النوع من الحكام، الذين نكّلوا باللبنانيين ونالوا غضبهم على أفعالهم، التي أفقرت الناس وجوّعتها وأذلّتها؛ وكانت سبباً في تضخيم حجم الفساد وتعميمه في دوائر الدولة، لأن الحاجة هي أحد أبرز أسباب ميْل الموظف إلى مد يده وتلقي الرشوة، بل والتطاول على المواطن المُكلَّف لفرض خوة عليه، مقابل تسهيل حصوله على طلبه من الجهات الرسمية، إن كان في معاملة يحتاج إلى تسجيلها، أو خدمة موجبة على دوائر الدولة.

والفارق بين المواطن الطاَفِر وبين المسؤول "الطافر"، المتمرد على حكم القضاء، أنّ المواطن ينال عطف وحماية البيئة التي يتحرك داخلها، لما يشعر به الناس من ظلم الدولة لهم وتخلفها عن القيام بواجباتها تجاههم.

أما المسؤول الذي يلاحقه القضاء، فهو مُدان أولاً على ألْسِنة الناس وفي ضمائرها، قبل أن يستهدفه القضاء، لأنه إما فاسد ومُرْتَكِب ومُخِل بواجباته، أو مُتعدٍّ على القانون والدستور.

والمواطن الطافر، في معظم الأحيان، هو إنسان لم يَنَل علماً كافياً ولم تتوفر له ظروف حياة لائقة، فيما المسؤول الطافر والمرتكب، هو من "عَليّة" القوم ووُجاهائهم؛ ومن "النخب" العلمية والسياسية؛ ومن أصحاب المراكز المرموقة والإمتيازات الملحوظة؛ وله نفوذ وصَوْلة وكلمة مسموعة في البلاد وبين العباد. وينطبق هذا الواقع والتوصيف على حالة رجالات الدولة اللبنانية، خصوصاً أولئك الذين تولوا حماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، علناً أو سراً.

وهم الذين إستفادوا خلال ثلاثة عقود من سياساته المالية؛ التي نفّذها برعايتهم و إشرافهم، فأفقرت البلد وجوّعت الناس، بعد أن إستنزفت خزينة الدولة و أهدرت مداخيلها على إرضاء جشع هذا المسؤول وذاك، إلى أن حدث ما لم يكن في حُسْبانِهم، حيث تحرك القضاء الأجنبي لملاحقة سلامة على إرتكاباته، بعد أن تلكأ القضاء اللبناني عن هذا الواجب، نظراً للحماية التي توفرت لحاكم المال من قبل تحالف زعماء السياسة ومراجع الطوائف وأصحاب المصارف. هكذا وفي ظل هذه الضائقة، تحرك حلفاء سلامة في السلطة والحكم؛ وتولوا حمايته من أي إستهداف قضائي لبناني، فكان أن تحرك لبنانيون على مستوى القضاء في الخارج؛ ونجحوا في ملاحقته قضائياً، إلى أن صدرت منذ أيام في فرنسا، مذكرة توقيف دولية بحقّه، على خلفية دعوى قضائية رُفعت ضده في فرنسا.

وتختلف أنواع الملاحقات التي تستهدف حاكم مصرف لبنان المركزي، حيث يرتبط النوع الأول بملاحقات ترتبط بمسؤوليته المباشرة عن الإنهيار المالي في لبنان وضيَاع الودائع، فيما يرتبط النوع الثاني بتحقيقات خارج لبنان، مُرتبطة بالإثراء غير المشروع و إختلاس أموال عبر شركة الوساطة "فوري أسوشييتس"، المملوكة لرجا سلامة؛ شقيق رياض؛ والعمولات التي حققتها الشركة من الأعمال في مصرف لبنان وحوّلتها إلى سويسرا، حيث يواجه سلامة إتهامات بجمع ثروة طائلة في أوروبا؛ وشراء عقارات فخمة عن طريق إساءة إستخدام سلطته. هي تُهمة بالإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، بالإمكان توجيهها لمعظم رجالات السياسة والحكم في لبنان، خصوصاً الذين تعاونوا مع سلامة، منذ أن توَلىّ حاكمية مصرف لبنان، بالتوازي مع توَلي الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة، من ضمن مشروع إفلاس لبنان وإستتباعه للسياسات الأميركية، التي تقضي بدفعه إلى الإعتراف بالكيان "الإسرائيلي" وتطبيع العلاقات معه؛ والخروج من الصراع العربي-"الإسرائيلي"، الناتج عن خطر هذا الكيان، الذي أُقيم على حساب شعب فلسطين ووطنه.

لكن مع تبدل الموازين الدولية والإقليمية؛ وفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد؛ وعجز الصهاينة ومن يؤازرهم من الحكام العرب، في إسكات الشعب الفلسطيني وضرب ثورته المستمرة، بدأت مسيرة التراجع، التي يتخلّى فيها الأسياد عن عبيدهم، بشكل مُتكرر.
كان سلامة أحد أدوات مشروع إفلاس لبنان وتطويع اللبنانيين، الذي بيّنت التطورات أنه إعتمد سياسة الهدر والإستدانة وإفقار وتجويع اللبنانيين؛ وتجفيف قُدراتهم المالية، ليرضخوا لتلك السياسة ويتخلوا عن مقاومتهم لهذا العدو ويتراجعوا عن الدفاع عن وطنهم، ومورست تلك السياسة علانيّة، تحت حجة أن عرب النفط بأمر أميركي، سيدفعون ديون لبنان، بعد تطبيق مشروع "السلام" مع الكيان "الإسرائيلي".

لكن حساب حقل الأميركي وأتباعه لم يُطابق بيْدر الأحداث، فمحور المقاومة صمد وتوسع وإقتدر، ومشروع تفتيت الكيانات العربية وهي المُقسّمة أصلاً ، لمنع العرب من التوَحّد و إمتلاك مصادر القوة، سقط على أبواب دمشق، التي قاتلت و أفشلت مشروع تقسيم سورية وإلحاقها بالمشروع الأميركي، مدعومة من كل المقاومين، عرباً ومسلمين، فكان أن وقَع لبنان في المحظور، لا هو نجا من الفخ الأميركي؛ ولا جماعة أميركا قادرون على التخلّص من المقاومة للإلتحاق بمعسكر التطبيعيين.

في حين واصل رياض سلامة تنفيذ مخطط الذين عيّنوه حاكماً على المال في لبنان، فأوصل الليرة إلى سعرٍ لم يكن في خيال أحد، تجاه الدولار الأميركي، حيث هبطت قيمتها مائة ضعف، ليصل الدولار إلى 145 ألف ليرة، ثم ليتراجع مؤقتاً، إلى 94 الفاً، مع إستمرار أسعار السلع الغذائية بالإرتفاع، في ضرب للقدرة الشرائية للدولار ذاته، بما يجعل المواطن اللبناني عاجزاً عن العيش.

ومع صدور أمر الملاحقة الدولية لسلامة، يَعْتبر كثير من اللبنانيين أن هذا الأمر خطوة على طريق تحصيل حقوقهم المسروقة، وسط صمت القضاء اللبناني.

فالحكم الفرنسي فضح عجز القضاء اللبناني عن ملاحقة سلامة وشركائه،أما المدافعون عن سلامة، فهم يدافعون عن أنفسهم، لأنهم شركاء معه في الفساد وفي الهندسات المالية التي أجراها؛ ويخافون أن يفضحهم أمام الملأ.
وفي كل الأحوال سيتحول هروب سلامة من الملاحقة وتستُّر الحكومة اللبنانية عليه، بأن تصبح الدولة اللبنانية، بكل أركانها، دولة طفّار، طافرة مثله من وجه العدالة، وإلا كيف لها أن تنفذ مسرحية "أن أجهزتها الأمنية عجزت عن تبليغ سلامة موعد حضوره أمام القاضية الفرنسية"؟

أليست تلك الأجهزة هي التي تحميه وتواكبه أمنياً؟


New Page 1