عالم متعدد الاقطاب وأكثر عدلا ... كتب ناجي صفا :: موقع صيدا تي في - Saida Tv


عالم متعدد الاقطاب وأكثر عدلا ... كتب ناجي صفا

عندما كتبت أن ما بعد سقوط باخموت ليس كما قبله ، وأنه سيكون هندسات جيوسياسية و إستراتيجية وتغيير في خرائط العالم الجيوسياسية، كنت أدرك لمفاعيل سقوط باخموت على المعادلات التي سيجري رسمها في أعقاب ذلك.
ها قد أعلن الرئيس الروسي بوتين عن عنوان تلك المتغيرات والنتائج المتوخاة ، سقوط النظام الرأسمالي المتوحش الذي سيطر على العالم لقرون ، لصالح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وأكثر عدلاً، يحترم القانون الدولي ولا يتدخل بشؤون الدول الداخلية ، ولا يعمل على تغيير الأنظمة لتتواءم مع مصالح الرأسمالية المتوحشة التي فرضت سيطرتها على العالم .
لم يأت كلام بوتين من فراغ ، ولا يُعبّر عن مجرد أماني زهرية أو حالمة. وإنما إستند إلى وقائع ومعطيات ميدانية في طليعتها سقوط باخموت التي نظر إليها الغرب على أنها عصيّة على السقوط.
لم يتوقع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة سقوط هذه المدينة بتحصيناتها المذهلة التي عمل الغرب على تدعيمها ومدّها بالسلاح والخبراء ، كان الغرب يعتبر أن تلك المدينة بأنفاقها وتجهيزاتها المعدة لتحمّل حرب نووية لن تسقط، لكن بعد قرابة عشرة أشهر من القتال الشرس بين القوات الروسية بقيادة قوات فاغنر ضد القوات الأوكرانية والكثير من المتطوعين والمدربين الأجانب سقطت بيد الجيش الروسي عبر قواته الخاصة.
ربما يتساءل المرء عن سبب هذا الصمود طيلة عشرة أشهر والتضحيات الجسيمة من الجانبين الروسي والأوكراني الذي إستخدم كل منهما قوات النخبة المجهّزة بكميات هائلة ونوعية من السلاح من أجل الفوز في هذه المعركة والسيطرة على هذه المدينة.
وقد يتساءل المرء أيضاً لماذا إكتسبت هذه المدينة كل تلك الأهمية التي ظهرت على مدى عشرة أشهر من القتال الضاري والمستميت لإسقاطها من قبل الروس ، والدفاع المستميت من قبل القوات الأوكرانية المدعومة من الغرب لمنع سقوطها .؟؟
مدينة أرتيموفسك التي غيّر إسمها الأوكرانيون إلى باخموت عام 2016 لطمس المعالم الروسية عنها، هي المدينة الوحيدة في العالم تقريباً التي كان أعدّها الإتحاد السوفياتي لتصمد أمام الحرب النووية إذا نشِبت، مهما كان عدد الصواريخ التي ستسقط عليها..
هي مدينة تقع تحتها شبكة أنفاق هائلة، تحتوي على مخارج عديدة مثل بيوت النمل.. وتلك الأنفاق نتاج الحفر في المناجم التي كان يُستخرج منها "الفحم الحجري، والملح الصخري، والمرمر، وغيرها" التي يعود بعضها إلى القرن الثامن عشر .
مباني مدينة باخموت بنيت على مداخل المناجم القديمة التي ترتبط بالأنفاق بشكل مباشر، ويُمكن الإنتقال عبرها من مكان لآخر عبر عربات قطار وسكك حديدية التي كانت تُستخدم لإستخراج الفحم الحجري والملح الصخري والمرمر.
خلال حقبة الإتحاد السوفياتي، والحرب الباردة تم تجهيز بعض تلك الأنفاق بغُرف مكيّفة وأعمدة أسمنتية في المناطق الضعيفة، وبناء مساكن وأندية وشوارع وأسواق وثلاجات تخزين وشبكة إتصالات، لتكون ملاجئ آمنة في حال نشبت حرب نووية.
حلف الناتو بدأ منذ العام 2014، تحضيراً لمواجهة روسيا ، بدأ بتجهيز المدينة وأنفاقها بكميّات كبيرة من الأسلحة ومن القوات المدرّبة من جميع الدول الأوروبية ليسكنوا تلك الأنفاق ويحفظوا دروبها، وأعدوا خطة عسكرية مُحْكمة للقتال فيها وهزيمة الجيش الروسي، هذا يؤكد ما قالته أنجيلا ميركل من أن إتفاقات مينسك لم تكن إلا لكسب الوقت تحضيراً للمواجهة مع روسيا ؟..
سقوط باخموت لم يكن معجزة فحسب ، وإنما مؤشّر على تبدُّل موازين القوى العالمية، ومقدمة لعالم جديد متعدد الأقطاب ومتوازن، وأكثر عدلاً وحرية للشعوب في تحديد خياراتها السياسية والإقتصادية والجيو سياسية.
تحوّلات كبرى سيشهدها العالم عقب إنتهاء الحرب الروسية الأوكرانية ، سيكون فيها خاسر ورابح ، والخاسر الأكبر سيكون الغرب ( أميركا و أوروبا) اللذان سيعانيان في إستعادة نموّهما وتطوير إقتصادهم و إستعادة الدورة الإقتصادية بعيداً عن الفكر الإستعماري المهيّمن الذي ساد العالم على مدى قرنين من الزمن ، وستتنفس دول العالم الثالث والفقيرة الصُعداء بعد رفع الهيْمنة الغربية عن إقتصادها ومؤسساتها السياسية .


New Page 1