منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية تفتحت عيون الولايات المتحدة على أن تكون إمبراطورية تحكم العالم.
إستفادت الولايات المتحدة من هذين الحربين في تكديس الثروة وبناء القدرات الإقتصادية والصناعية والتقنيات ، فكانت المصانع الأميركية تعمل ليلاً و نهاراً، وعلى مدار الساعة بمعدل ثلاث ورديات في اليوم لكي تستطيع أن تلبي حاجات الدول الغارقة في الحرب من المعدات إلى الأسلحة والدبابات والطائرات وصولاً إلى الغذاء وبقية متطلبات الحياة ، حيث بلغ الإعتماد على الولايات المتحدة نسبة مرتفعة جداً في مجمل الدول المنخرطة في الحرب.
كانت الولايات المتحدة صاحبة الطموح المشار إليه أعلاه في كل مرة تدخل الحرب قبل نهايتها بقليل، لكي تحجز لنفسها مكاناً في الأرباح والنتائج والمعادلات الناتجة عن الحرب، ليشكل ذلك مدخلاً لبسط هيمنتها.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد بدا أنه بات يستقر لها دور الهيمنة، أرادت الولايات المتحدة تكريس تلك الهيمنة بعرض عضلات كبير نتج عنه ضرب اليابان بقنبلتين نوويتين في هيروشيما ونكازاكي، نتج عنهما مئات آلاف القتلى والمشوّهين ومستوى هائل من الدمار البشري والإنساني والمعيشي والمناخي الملبد بالإشعاعات.
كان ذلك رسالة كافية لمن يعنيهم الأمر بأن الولايات المتحدة قد إمتلكت قدرات هائلة وينبغي على الجميع أخذ هذا المعطى بعين الإعتبار .
كانت الرسائل الأميركية تُوَجَّه بكافة الإتجاهات، أُقرنت ذلك بحروب في شبه الجزيرة الكورية التي قسمتها إلى دولتين شمالية وجنوبية، ومن ثم توجهت إلى فيتنام حيث إرتُكِبت أبشع المجازر الإنسانية بكافة أنواع الأسلحة المحرّمة دولياً.
بعد الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة تضع البُنية التحتية لهيمنتها على العالم ، بعد أن أصبحت تمتلك إقتصاداً هائلاً يوازي نصف الإقتصاد العالمي، فكان لا بُدّ من إنتاج المؤسسات السياسية والمالية والإقتصادية والعسكرية لكي تتمكن من خلال هذه المؤسسات من السيطرة والهيمنة على العالم، فكانت إتفاقية "بريتن وودز" التي كرّست الدولار كعملة تداول أساسية وشبه وحيدة في سوق التداول والمبادلات العالمية، و أنشأت بصفتها الدولة المنتصرة شبه الرئيسية في الحرب العالمية الثانية مؤسسة الأمم المتحدة كبديل لمؤسسة عصبة الأمم، راعت الولايات المتحدة في إنشائها لهذه المنظمة شركائها في النصر في الحرب العالمية إنما مع أرجحية لسلطة الولايات المتحدة على هذه المنظمة،وبما يخدم أهدافها ، وما زالت حتى يومنا هذا تخضع هذه المنظمة بشكل أو بآخر لهيمنة الولايات المتحدة. ومن ثم أنشأت منظومة حلف شمال الأطلسي العسكرية بقيادتها لإستخدامها في حروب الهيمنة التي تتطلع إليها.
إلى جانب ذلك قامت الولايات المتحدة تحت عنوان مساعدة أوروبا على النهوض بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها أوروبا مدمرة، قامت بما يُسمّى بمشروع مارشال الذي قدمت من خلاله المساعدات لأوروبا بهدف إعادة النهوض، لكنها وضعت أوروبا كاملة تحت هيمنتها الإقتصادية أولاً، ومن ثم السياسية والعسكرية فأقامت القواعد العسكرية والمؤسسات التي تكرس من خلالها هيمنتها الإقتصادية والعسكرية والسياسية على أوروبا وما زالت حتى الآن ، وقد تجلى ذلك في التبعية الأوروبية المطلقة للولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية.
في هذه الأثناء إلتفتت الولايات المتحدة لبقية العالم لتوكيد هيمنتها، قامت بسلسلة من الحروب في أربع أرجاء الأرض، فلم يسبق لدولة في التاريخ أن قامت بهذه الكمية من الحروب خلال أقل من مائة عام وقد بلغت حوالي تسعين حرباً كلفت البشرية ملايين الضحايا والدمار .
نشرت الولايات المتحدة على عموم الكرة الأرضية وما زالت ما يقارب 900 قاعدة ونقطة عسكرية لتأكيد هيمنتها على العالم، لإخضاع من لم يخضع بالسياسة، إخضاعه بالقوة، وتقوم بتأسيس التحالفات والمعاهدات التي تمكّنها من تطويق القوى الصاعدة والناشئة مثل الصين وروسيا، فأقامت في سبيل ذلك معاهدة أيْكوس التي سيطرت بموجبها على أوستراليا سياسياً وفكرياً و إقتصادياً لدرجة أن أي مواطن أميركي يمكنه الإنخراط في الجيش الأوسترالي، وحددت وجهتها ضد الصين التي باتت تخشى من تجاوزها وكذلك مع كوريا الجنوبية واليابان والفيلبين، معاهدات وقواعد عسكرية وإستراتيجيات تقوم على قاعدة العداء للصين وروسيا.
مارست الولايات المتحدة سياسة العقوبات على الدول التي تخالفها الرأي، و إستخدمت الدولار كأحد آليات هذه العقوبات،مستفيدة من كون الدولار الأميركي يُمثّل العملة الرئيسية للتداول عبر العالم، وكان لإيران النصيب الأكبر من تلك العقوبات على مدار أربعة عقود،و على كوبا على مدار ستة عقود،وعلى فنزويللا والصين وروسيا حتى بلغ عدد الدول الخاضعة للعقوبات الأميركية ثلاثين دولة.
الآن ثَمّة دول ناشئة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وإيران ودول عديدة أخرى أرادت القول لأميركا إنتهى الدرس أيها الغبي، بدأت هذه الدول بإنشاء المؤسسات والتكتُلات التي تواجه الهيمنة الأميركية كالبريكس وشنغهاي،اللتان باتا يشكلان حوالي 35 % من الإقتصاد العالمي ، وما يزيد عن 50 % من عدد السكان و 35 % من مساحة الكرة الأرضية، و إمتلاك قدرات إقتصادية وعسكرية موازية لما تمتلكه الولايات المتحدة.
العالم بدأ يتغيّر ، والقبضة الأميركية التي إستمرت لأكثر من سبعة عقود بدأت بالإنفكاك ، يضع ذلك العالم أمام تحوّلات إستراتيجية وجيوسياسية هامة ومبشّرة ما لم تقلب الولايات المتحدة الطاولة وتذهب إلى حرب عالمية ثالثة.....